الرباط نيوز
إن كتاب: “البورناوت” Burn- Out انعتاق طالبة أستاذة من الجنون؛ هو صرخة بصيغة نون النسوة؛ لانطلاق طائر الفينق وإحيائه من جديد، والانبعاث من الرماد للانطلاق بكل قوة وحرية…
…………………………. ماجدة غرابو
لم أفكر يوما أن أكتب سيرة ذاتية، فحياتي ليست بثراء حياة نوال السعداوي أو مغامرات كازانوفا أو صدمة وقسوة حياة شكري! فما أنا إلا أستاذة أو معلمة بسيطة عاشت حياتها بكل هدوء وهي تحادي الجدران، تحلم بغد أفضل لأبنائها وأسرتها الصغيرة. وما هذه السيرة الذاتية إلا صرخة نملة/ أستاذة في هذا المجتمع بصوت جميع ممتهني مهنة التدريس؛ الذين احترقوا مهنيا دون أن يفهموا ما أصابهم ودون أن يجدوا من يشد بأيديهم وعلى عضدهم لينعتقوا من مصابهم، فمنهم من ظل قابعا في قسمه شبه ميت وكأنه جذع شجرة خاو محترق إلى أن تقاعد، ومنهم من انتهى به الأمر كالمجذوب في الحواري والشوارع أو البراري، ومنهم من انتهى به الأمر في مستشفى المجاذيب أو المجانين ومنهم من انتحر منهيا عذابه وصراعه مع الواقع رغم إيمانه الشديد ووثوقه بالله أكثر من أشد الواثقين به سبحانه. فدافعي الأول لكتابة سيرتي الذاتية هو إصابتي بمرضي الذي أتقدم له بجزيل الشكر؛ وممتمنة له أيما امتنان لإصابتي به، فهو كان دافعي للخلاص إما منه أو من الحياة، وصدفة كنت من المحظوظين لوجود أشخاص رائعين بحياتي وجدتهم حولي كما الخبيثين لدفعي بقوة وللتحدي لأظل بهذه الحياة وهذه الدنيا لأتقاسم معناتي بمرض “الاحتراق المهني” المشخص بمرض القلق الذي أثار اهتماما خاصا لدى أحد أعلام الحرية الوجودية كيير كيغارد (Kier Kegard) من حيث هو دافع إلى الإنجاز والإبداع، ويراه كيير كيغارد -أي القلق الخلقي- على أنه موجود منذ عصيان آدم عليه السلام ربه. ولكنه لا يتضح لدى الفرد إلا بعد ارتكابه إثما يعترف به أو يكون منبعا للإبداع، وبأن قوة النفس تنبثق من نجاح الفرد في مواجهة الخبرات التي تثير القلق، فالقلق سبيل إلى نضج النفس الإنسانية وتفتحها عن طبيعتها العميقة الخلاقة، ولكنه يقود إلى الانسحاب أحيانا بدلا من الخلق والإبداع، ويمكن أن يتطور إلى عصاب شديد الأثر.
فانبثقت أولى بوادر هذا الانعتاق والخلاص والخلق حين فكرت في أن أتابع دراستي الجامعية بشعبة السوسيولوجيا وأن ألقى أساتذتي الأجلاء الذين أتوجه إليهم بكل الامتنان والاحترام والتقدير، فلم يبخل أساتذتي علي في شعبة الفلسفة ومسلك السوسيولوجيا على إمدادي بالطاقة اللازمة لأواصل دراستي وبكل التشجيع لأطور من عطائي وكتاباتي، فكانت الدراسة بالنسبة لي شفاء وبلسما، وكانت الكتابة تحررا من أسر الذات وميلادا منبثقا من الرماد والاحتراق وأسر المرض ومن ضروب الجنون من زاوية النظر المغربية…
*******************************************
ومضات من حياة طالبة ميتة
هي مأساتي الحقيقية التي عشتها دون وسيط في الحكي، أو راو ذي خيال واسع ينوب عني، بل هو ذلك الحزن كله وذلك الألم الذي يعتصر نفسيتي، وذلك الخوف من الخروج أو ذلك الهروب من النفس، والحزن الشديد الذي يصعب وصفه على كل من عاشه، لأنه يعاش ولا يوصف، كما يقول توفيق الحكيم عن اللحظات السعيدة في كتابه “زهرة العمر” أنها تعاش لحظة وقوعها ولا توصف، فهكذا عشت أياما بل أشهرا لمدة فاقت سنتين، هي مدة من الاحتراق المهني قضيتها ولا زلت وأنا أسميه الموت المهني.
ودون أن أدرك ما يقع لي بداية الأمر، ودون أن أعرف ما بدأ يلم بي شيئا فشيئا في محاولات مبدئية مني في تغيير مهمتي المهنية يعني ألا أدرس، ألا أستقبل أباء وأمهات التلاميذ، ألا أرى مدرسين أو مدرسات، ألا أتعامل مع أي أحد من أفراد المؤسسة، بدأت الحكاية بادئ الأمر بأمنيتي لو أطير محلقة دون أن يراني أحد وألا أرى أحدا، وأن أجد نفسي في الفصل أدرس، لأن هذه هي المهنة الوحيدة التي أعرف، والتي زاولتها وسني لا يكاد يتجاوز الواحد والعشرين سنة، وهي المهنة التي نشأت عليها ومعها وبها في بيت أسرتي تحت كنف أبي رحمة الله عليه الأستاذ الذي يعشق هذه المهنة “التعليم” ولا يعلى عليها بالنسبة اليه، كما يمارسها العديد من أفراد أسرتي الكبيرة فهم يمتهنون نفس المهنة، اثنان من أخوالي واثنان من أعمامي وأختي أيضا.
من لم يعش هذا المرض أو هاته المعاناة فلن يعرف كنهها! ومن لم يعشها مع قريب له فلا يمكنه لمس خطورتها وألمها وعذابها !! فهل يمكن لألم الاحتراق بالنار أن يوصف وأن ويحس به المستمع اليك دون أن يجربه ؟؟ هل يمكن أن يحس بتآكل جلدك وما تحت جلدك وكأنه أنت ؟؟؟ فلا يمكن لبعض الأحاسيس الإنسانية أن يحس بها من لم يعشها! ولا يمكن أن يلمس مدى عمقها وألمها وعذابها من عاش بعيدا عنها ومن لم يجربها.
تلك كانت المرحلة الأولى من موتي المهني، ذلك الإحساس بالكره الشديد اتجاه من يعملون معي، أو على الأقل عدم رغبتي في رؤيتهم، خصوصا وأنهم يشككون فيما أصابني، كرههم لأنني أحترق أمامهم وهم ينظرون إلي باستغراب- فمنهم الشامتون أيضا- وكرههم لأنهم لم يقدموا لي أية مساعدة وأنا أحترق أمامهم وأموت كل يوم. أو على الأقل تمنيت أن يتفهموا حالتي، بل إن البعض منهم كانوا ينسجون ما ينسجونه من حكايات حولي: “ما بها؟ ماذا ينقصها؟ هل ألمت بها مصيبة وتنكرها علينا؟” هذا ماكان يصل لمسامعي وأحسه بنظراتهم إلي. ثم بدأت ودون أن أدري البحث عن كل الوسائل التي أنقذ بها نفسي من ذلك الجحيم بالنسبة لي “التدريس” أبحث عن البديل أي بديل! ومهما كان! وبأي ثمن …! فأقرب المقربين لي ما يزالون مندهشين، وأنا نفسي أتصرف دون أن أفهم! كل ما أحس به حينها، الحزن الشديد، ورغبتي في الهروب من كل شيء، عملي، بيتي، زوجي، أولادي! العالم بأسره مع أنني أوصف “بالبيتوتية” وأوصف بالبشوشة والاجتماعية جدا! كل هاته الصفات تبخرت وذهبت أدراج الرياح، أصبحت لا أعرف نفسي.
لاأذكر من بعض كلمات زوجي لي غير أنه يريد فقط استرداد زوجته اليه، ولا يريد أن أضيع منه، وأنا لا أملك لنفسي حولا ولا قوة، فقد كنت أهوى في قاع مظلم، لا قرار له ولا نهاية، ولا يوجد فيه بصيص شعاع من نور.
بدأ كل اهتمامي وتوجهي ينصب إلى أن أعمل بالإدارة، ليس حبا فيها، فلم أفكر فيها يوما طيلة مدة عملي لأكثر من عشرين سنة، بل لأنها الفرصة الوحيدة أمامي وملاذي الأوحد لأنقد نفسي بإحساسي ذاك وأنا مريضة متألمة. فقدمت طلبي لأعمل كمديرة بأماكن أعدها الآن منفى انتحاريا لو كنت قبلت بها، لأنها مدارس تبعد عن بيتي بأكثر من مئة كلم، كنت سأفقد معها استقراري الأسري وأغيب عن أولادي مدة أسبوع على الأقل وهم في أحرج فترات عمرهم – مراهقتهم – التي صنعناها بتنشئتنا الاجتماعية لهم، كما تقول بذلك أبحاث “مارغريت ميد” . وكانت مقرات بعض المؤسسات في أماكن غير معبدة الطريق، وصعب الوصول إليها، حتى أن بعض عمال الطرق نبهونا من خطورة المكان ونحن نبحث عنها، كان زوجي وأبنائي برفقتي حينها، أما لو كنت قبلت لأعمل بها، وكانت نقطي المهنية تخول لي ذلك لكنت ضعت وضاعت أسرتي معي. وطوال الطريق ونحن نقطع كلومترات في ممرات وعرة غير معبدة، وزوجي يكرر علي طرح السؤال نفسه كل مرة: “هل أنت مصممة أن نستمر في البحث؟” وكل مرة أجيبه بالإيجاب. وكأنني لا أنتمي لذلك العالم الذي نسير إليه، كل ما أذكره أنني أود الهروب لأنني أصبحت ميتة في العالم الذي أتواجد به.
وكلما مرت الأيام وأنا بعملي كلما ازدادت حالتي سوءا، ولا يحس بحدة التغيير إلا أنا أو بالأحرى المقربين مني خصوصا زوجي، أما أبنائي المساكين فهم ينالون مني ما ينالوه من سوء المعاملة.
بعدها جاءت مرحلة الدموع الصامتة التي تنزل من مقلتي بدون توقف، حين أدخل بيتي أو حتى وأنا داخل الفصل – مع أن دموعي حسب المألوف مستعصية النزول – دموع يرافقها حزن شديد، حزن من ماذا؟ لا أعرف! حزن على ماذا؟ لا أعرف! كل الذي أذكره أن الأفكار تتضارب برأسي دون توقف، وتخيلات مأساوية مني اتجاه أولادي تعتصر قلبي ودماغي وكل نفسيتي، لا أحبذ حتى تذكرها بيني وبين نفسي، فبالأحرى تذكرها بيني وبين الورقة والقلم الآن.
بدأت في قطع الصلة مع كل ما أنتمي إليه حتى بيتي. أنا الحريصة على كل صغيرة وكبيرة به، أصبح لا يعنيني أنا الحريصة على أن أوفق بين عملي وبيتي وألا يتضرر زوجي وأولادي من أي نقص بسبب عملي. أصبح أكلهم شربهم وترتيب البيت وما يلزمه، كل أمور الحياة لا تهمني، لأنني حينها كنت ميتة وأكثر من محترقة مهنيا، لهذا سميته الموت المهني لأنه يؤدي الى الموت الحياتي أو الموت المجاني.
الكل يتساءل: “ما بها؟ انها لا تحتاج شيئا؟ فلا ينقصها ما ينقص غيرها؟ ولم يحرمها الله من شيء !!!”
حتى أن هناك بعض الظرفاء من أقاربي من حلق بهم خيالهم الواسع الى درجة أن أحدهم سمع صوتي عبر الأثير أشكو زوجي وكونه سبب معاناتي ,وقالوا أنه هو السبب في انقلاب حياتنا بعد رحيلنا الى مدينة البوغاز! مع أني لم أحاول ولو مرة بحياتي أن أتكلم عبر المذياع، بل على العكس من ذلك تماما. فقد اقترحت علي مرة إحدى الاستاذات اللواتي تعرفت عليهن خلال تكوين بخصوص اكتساب (آليات ادارة وتنشيط مكتبة)، أن أطرح ما أعاني منه في مقر برنامج أثيري بمدينة طنجة له حيز زمني معين خاص به، مع توفير الصحافيين المنشطين لطبيب نفساني مختص وأحد الباحثين في الموضوع، لكن حين استشرت مع زوجي، لم ألمس تقبله وترحيبه بالفكرة! فاحترمت رغبته، واعتذرت للأستاذة.
أما زوجي الذي يتوهمون أنه السبب فيما وقع لي، فلولا تواجده بحياتي لكان مصيري الآن شيء آخر! فقد كان في ذروة مرضي يبكي بجانبي متسائلا: “هل لي علاقة بما أصابك؟ ماذا عساي أفعله لك كي ترتاحي؟ وكان ملازما لي- كما عهدته – في كل مراحل مرضي، لا يبخل علي بكل ما أحتاجه وحتى مالا أحتاجه، ولا أظن أنه توجد نساء كثيرات في هذه الدنيا من استمتعن وتدللن وعشقن أكثر من عشق زوجي حبيبي لي. لكن تبقى فكرة المذياع الذي سمعوا شكواي عبر أثيره تبريرا شافيا لبعض النفوس المريضة ذات الخيال الفضفاض.
فالأشخاص في أحايين كثيرة لا يتركون لك حتى الحق في المرض أو الحق في الانزواء أو الابتعاد عنهم، أو الحرية في التكتم عن بعض أمور حياتك الخاصة أو احترام جهلك تفسير مالم تستطع فهمه. أنت نفسك عن نفسك.
ينصحونني: “جددي علاقتك مع الله! ثقي بالله، وفوضي له أمرك، جددي إيمانك!؟ استمعي لتلاوة القران!؟ حاولي اللجوء للرقاة الشرعيين!” سمعت الكثير لكني أذكر أنني كنت في ملكوت وحدي، لا أعي ما يقولون، وأستفز أكثر بكلامهم، وأقول في نفسي إنهم لا يشعرون بي وبدواخلي، كيف لي أن أشرح لهم؟ حتى يحسوا بي! هل الذي يده في النار كالذي يده في الماء؟ ليسوا سيان البتة، بل هو النقيض تماما، وهو نقيض النقيض والذي لا يمكن لأحدهما أن يحس أو يشعر بأحاسيس أو شعور الآخر.
بدأت وثيرة النوم تقل لدي بشكل سريع ورهيب، ثم بدأ النوم يفارق جفني! وكل يوم علي الذهاب للعمل؟ فماذا عساي أن أفعل؟ فالدماغ مشلول، وعلي إيجاد الحلول أو فهم ما يقع! فأنا تلك النشيطة التي تحب المزاح والضحك كثيرا، تلك المحبة للحياة ولعملها، وتجدد فيه قدر المستطاع مثل باقي الأمور الحياتية الأخرى حتى لا تمل. أين تبخرت هذه الأشياء لا أعلم؟ أصبحت داخل وعاء محترق متفحم، لا أعرفه لكن ما بداخله هو أنا في تلك المرحلة.
الناس نيام وأنا في أوج الصحو ليلا، لم تعد قراءة الكتب تجلب لي النوم كما تعودت إذا أصابني الأرق! لم تعد مشاهدة التلفاز تستهويني كما كانت من قبل أو أطيق حتى النظر إليها! الانترنيت أيضا بكل عوالمه الافتراضية أكرهه، قراءة القرآن وسماعه لا يغيران شيئا، الصلاة ليلا لمدة طويلة متضرعة إلى الله أن يعينني في محنتي لا تساعدني على جلب النوم. أصبحت أقصى ما أتمناه حينها أن أنام. أن أرتاح فأنا أتعذب وأعذب زوجي معي. وطول الوقت ألح عليه في إيجاد حل لي، أن يفعل أي شيء لإراحتي وليس بيده شيء يفعله، وطوال الوقت يسألني ماذا ألم بي؟ ماذا يقع لي؟ فقد تعود أن أكون مصدر فرح في بيتنا وحيوية ونشاط وشغب مستحب منه ومن أبنائي، فأنا لا أتركهم على حالهم، فدوما أقتحمهم بإثارتي لهم بكل الطرق، فهم حياتي التي أحياها ولأجلها. أحيانا يبكي بجانبي وأنا أبكي ويقول لي: “أريد فقط استرداد ماجدة زوجتي”، وأنا أنظر إليه ولا أفهم عمن يتكلم ؟؟ من هذه التي يتكلم عنها؟ كل ما أعرفه أنني أريده أن يبتعد عني! وألا يسألني شيئا، وألا يضع يده علي حتى ولو بلمسة بسيطة ولو مربتا على كتفي، أو وهو يسألني ماذا ألم بي ؟! لأني أحس بيده تحرقني وتؤلمني ولا أريد رؤية مخلوق معي أو أمامي!
أصبحت أدخل من عملي وعلى أول فراش في مدخل بيتي أرتمي، أبقى كما أنا بملابسي، ولا يهمني أكل ولا شرب ولا شيء في الكون، ولا يهمني أولادي ولا يهمني بيتي أو ما حل به، مع أني كنت آخر من تنام بالبيت بعد مجموعة ترتيبات منها الحرص على تغطية أبنائي وتقبيلهم وهم نيام. أصبحت لا أفارق أقرب مكان لباب الشقة ودورة المياه للضرورة، إذا جلبوا لي ما آكله فذاك، وإذا لم يعطوني شيئا فلا يهمني ولا أبالي، كل ما أعرفه أن الليلة التي سأمضيها ككل ليلة ستكون بدون نوم وبألم وحزن شديدين.
ستتوالى ليالي كثيرة على هذه الشاكلة وسأبدأ الحركة والكل نيام ذهابا وإيابا، أطل من الشرفة! أتحرك ولا أستطيع الركون لمكان أو أن أهدأ، لا أعمل شيئا يفيد أحدا، مجرد حركة دؤوبة لا غير، وكأنني أبحث عن النوم في تلك الحركة، ثم بعدها سأصل الى مرحلة أخرى! أنا المتفائلة المرحة القنوعة الراضية السعيدة بزوجي وبأولادي، السعيدة بأغلب أوضاعي أو بمجملها، لا أشكو من ضيق في أي أمر من أمور حياتي. سيزداد الأمر سوءا وأنا في حركتي الليلية ككل ليلة، سأبدأ بالذهاب إلى الشرفة أكثر من أي مكان آخر في البيت وأنظر الى أسفل وأنظر… وأفكر والأفكار تتصارع في ذهني . هل أفعلها ؟؟؟ لأنتهي من هذا الحزن وهذا الألم، ولأن لا شيء يستحق الحياة … أنا القاطنة بشقة في الطابق السادس !!!
كيف بدأت أفكر هكذا؟ لا أعلم كيف وصلت الى هذه المرحلة والى هكذا نوع من تفكير ؟؟؟ لا أعلم! كل ما أعرفه أنني أتعذب وعلي أن أرتاح وأن أنهي هذا العذاب بأية وسيلة! لأنني بحثت بطرق كثيرة أن أغير وضعيتي، أن أطالب بإعفائي من التدريس، وأن أعمل بوزارة التربية والتعليم لكن بامتهان أي دور آخر لكن ليس في الفصل. فتهت داخل ترسانات من القوانين التي تقود الى دهاليز معقدة من الإجراءات غير الواضحة والمضمرة، فلم أجد لذلك طريقا أو سبيلا واضحا.
بدأت وأنا في طريقي إلى العمل أغير وجهة سيارتي وكأنها هي التي تقودني ولست أنا التي أقودها، لأجد نفسي في مكان آخر. مرة ذهبت بسيارتي التي توقفت جانب الشاطئ، فارتميت على الرمال والدموع تنهمر من مقلتي دون توقف، وذلك الحزن الشديد دائما، ارتميت أمام الناس غير مبالية بأحد ووجهي في الرمال.
إنه ” البورناوت “، المرض المتخفي، المرض الغير اجتماعي والذي تقطع فيه التواصل مع الناس، وهو المرفوض مهنيا والغير معترف به اجتماعيا، فأعراضه لا يحس بها إلا من يعيشها دون إدراك الشخص نفسه ماهيتها ؟!
إنه الموت المهني الذي هو أكثر من الاحتراق المهني، إنه الموت الحياتي، الموت المجاني، لأن حلوله هي ذلك السهل الممتنع، لكن من سيوقف هذا الزلزال الذي يدمرني؟ ومن سيصد هذا الطوفان الذي يغرقني ويكاد يبتلعني؟ فحلوله من المفروض أن تكون سريعة جدا وتوجب التدخل في أسرع وقت، لكن لا يكون تدخل البتة لأن لا أحد يحس بأعراض صاحبه الذي يعاني منه. فالكل يعاني معك خصوصا المقربين منك، لكن لا أحد يدرك ما بك، حتى التلاميذ أنفسهم ينظرون إليك بريبة وربما خوف ووجل إلا أنهم لا يفهمون ما صرت فيه، أصبحت أطردهم من الفصل بشكل ثلاثي أو رباعي أو أكثر وأغلق الباب بكل قوة غير مبالية، مع وعيي الشديد ومعرفتي الكاملة أن ذلك مرفوض مهنيا، لأنهم أطفال صغار وذاك ممنوع مهنيا وقانونيا أيضا. في التعليم الأساسي على وجه الخصوص.
فكرت يوما أن أطرد كل التلاميذ من الفصل وأغلقه علي، وألا أخرج حتى يخرج كل من بالمؤسسة، فالضجيج يطنن وسط دماغي ويصدع لي رأسي مع قلة نومي، وليال كثيرة انعدام هذا النوم!
جاء الفرج أخيرا – صدفة لا غير – كان بعد إحدى المشادات القوية بيني وبين زوجي أطالبه خلالها بأن يجد لي حلا بالنسبة لعملي الذي أصبحت أكرهه أو بالأحرى لا أستطيع ممارسته ، وإلا سأخرج وأترك عملي مضحية بكل حقوقي المادية وسنين عمري بعد عملي لأكثر من عشرين سنة وأترك بيتي – هذه الفكرة راودتني بإلحاح مرات ومرات – وفي لحظة غضب منه وعلى غير طبعه وسجيته، قال وهو يصرخ: “إنك مريضة ويلزمك الذهاب عند طبيب نفساني”، قالها بشدة وبقوة وهو يصيح، استوقفتني هذه الجملة منه لحظات، لذت بالصمت، فكرت فيما يقول، وداخلي يتساءل: “هل جننت؟؟؟” لم يقلها مرة في حياتنا الزوجية، لمدة فاقت الثمانية عشر سنة!
لحظات يعيشها الإنسان وكأن الزمن فيها يتوقف، مع أنه سائر نحو الأمام إلى ما لانهاية، لكن يحس خلالها الواحد منا وكأن دماغه مشلول ولا يستطيع التفكير، وأن كل ذرة في جسمه لا تتحرك وضائقة هي الدنيا به، وتطول لحظات مثل هذا الزمن وتطول حتى يخيل للمرء أنه حبيسها سجينها وأنها تخنقه بشدة الألم، فالأزمة تخنقه وكأن حبلا ملفوفا حول عنقه مشدود إليه، لا يستطيع أن يبرحه ولا يقوى على مد يده اليه ليزيله عن رقبته، ويبقى الوضع جامدا وخانقا آسرا له. لا نستطيع له حولا ولا قوة منا، ننتظر الفرج من قوة خارقة خارجة عن ذواتنا لفك أسرنا، نطلب النجدة من العدم. الآخر لا يحس بنا، لا يفهمنا ولا نستطيع البوح، ليس كل منا يمكنه البوح للآخر، وليس كل ما بنا نقوى على البوح به مهما كانت صراحتنا ووضوحنا باديان علينا ويميزاننا عن كثيرين، هي أشياء غامضة تكبلنا، فكلنا مكبلون مغلولون حتى رؤوسنا ومن أخمص أقدامنا، محبوسون مقيدون مهما فكرنا وتجردنا من هويتنا الداخلية، فلكل منا هويته المجهولة التي تخنقه داخل هويته المعلومة.
فذواتنا خارج سيطرتنا، خارج تحكمنا، خارج توجيهنا. هي أناتنا الغارقة في الغموض حتى بالنسبة لنا. ألا تأتي على كل منا لحظات خانقة يشل فيها تفكيرنا ونعجز فيها عن التصرف وعن إيجاد الحلول أو إيجاد أنصاف الحلول حتى. هي لحظات خارج إرادتنا، أحيانا لا يد ولا حيلة لنا فيها غير أننا ذلك الانسان الواعي العاقل، أحيانا يكون الحل هو أن تكسر على الأقل كل ما يحيط بك وأن تقذف في وجه بعض من هم أمامك بأي شيء في يدك، أو أن تصفع على الأقل من هو أمامك بكل ما أوتيت من قوة، لعل وعسى لنار صدرك أن تهدأ وأن يتحرك تفكيرك المشلول قليلا لتحس أنك تتحرك وتتحرر كأضعف إيمان.
The post حكاية انعتاق طالبة أستاذة من الجنون للكاتبة ماجدة غرابو[ ومضات من حياة طالبة ميتة]) appeared first on الرباط نيوز.
![Screenshot_20250505_115939_Photo Editor حكاية انعتاق طالبة أستاذة من الجنون للكاتبة ماجدة غرابو[ ومضات من حياة طالبة ميتة])](https://www.ribatnews.com/wp-content/uploads/2025/05/Screenshot_20250505_115939_Photo-Editor-212x300.jpg)
إرسال تعليق