الرباط نيوز
إن كتاب: “البورناوت” Burn- Out انعتاق طالبة أستاذة من الجنون؛ هو صرخة بصيغة نون النسوة؛ لانطلاق طائر الفينق وإحيائه من جديد، والانبعاث من الرماد للانطلاق بكل قوة وحرية..
ماجدة غرابو
لم أفكر يوما أن أكتب سيرة ذاتية، فحياتي ليست بثراء حياة نوال السعداوي أو مغامرات كازانوفا أو صدمة وقسوة حياة شكري! فما أنا إلا أستاذة أو معلمة بسيطة عاشت حياتها بكل هدوء وهي تحادي الجدران، تحلم بغد أفضل لأبنائها وأسرتها الصغيرة. وما هذه السيرة الذاتية إلا صرخة نملة/ أستاذة في هذا المجتمع بصوت جميع ممتهني مهنة التدريس؛ الذين احترقوا مهنيا دون أن يفهموا ما أصابهم ودون أن يجدوا من يشد بأيديهم وعلى. عضدهم لينعتقوا من مصابهم، فمنهم من ظل قابعا في قسمه شبه ميت وكأنه جذع شجرة خاو محترق إلى أن تقاعد، ومنهم من انتهى به الأمر كالمجذوب في الحواري والشوارع أو البراري، ومنهم من انتهى به الأمر في مستشفى المجاذيب أو المجانين ومنهم من انتحر منهيا عذابه وصراعه مع الواقع رغم إيمانه الشديد ووثوقه بالله أكثر من أشد الواثقين به سبحانه. فدافعي الأول لكتابة سيرتي الذاتية هو إصابتي بمرضي الذي أتقدم له بجزيل الشكر؛ وممتمنة له أيما امتنان لإصابتي به، فهو كان دافعي للخلاص إما منه أو من الحياة، وصدفة كنت من المحظوظين لوجود أشخاص رائعين بحياتي وجدتهم حولي كما الخبيثين لدفعي بقوة وللتحدي لأظل بهذه الحياة وهذه الدنيا لأتقاسم معناتي بمرض “الاحتراق المهني” المشخص بمرض القلق الذي أثار اهتماما خاصا لدى أحد أعلام الحرية الوجودية كيير كيغارد (Kier Kegard) من حيث هو دافع إلى الإنجاز والإبداع، ويراه كيير كيغارد -أي القلق الخلقي- على أنه موجود منذ عصيان آدم عليه السلام ربه. ولكنه لا يتضح لدى الفرد إلا بعد ارتكابه إثما يعترف به أو يكون منبعا للإبداع، وبأن قوة النفس تنبثق من نجاح الفرد في مواجهة الخبرات التي تثير القلق، فالقلق سبيل إلى نضج النفس الإنسانية وتفتحها عن طبيعتها العميقة الخلاقة، ولكنه يقود إلى الانسحاب أحيانا بدلا من الخلق والإبداع، ويمكن أن يتطور إلى عصاب شديد الأثر.
فانبثقت أولى بوادر هذا الانعتاق والخلاص والخلق حين فكرت في أن أتابع دراستي الجامعية بشعبة السوسيولوجيا وأن ألقى أساتذتي الأجلاء الذين أتوجه إليهم بكل الامتنان والاحترام والتقدير، فلم يبخل أساتذتي علي في شعبة الفلسفة ومسلك السوسيولوجيا على إمدادي بالطاقة اللازمة لأواصل دراستي وبكل التشجيع لأطور من عطائي وكتاباتي، فكانت الدراسة بالنسبة لي شفاء وبلسما، وكانت الكتابة تحررا من أسر الذات وميلادا منبثقا من الرماد والاحتراق وأسر المرض ومن ضروب الجنون من زاوية النظر المغربية…
الجامعة…أساتذتي وشعبة السوسيولوجيا
وأصبحت أرض دجلة والفرات ومهد أولى الحضارات في خبر كان، يوم كانت مدينة شيكاغو الأمريكية لم تر النور بعد بقرون عديدة، يا لمهازل التاريخ!
وفعلا فهؤلاء الأساتذة اسم على مسمى، فلا يمكن للغزالي إلا أن يدرس مادة “علم النفس” المنبثقة من الفلسفة، ولا يمكن للمعتصم إلا أن يدرس مادة “الفكر الفلسفي”. بعدها سألحظ اسم الأستاذ الشتوكي مدرس مفاهيم فلسفية، قلت في نفسي: “أكيد هو منحدر من منطقة شتوكة التي تتواجد بمنطقة دكالة”، ربما هو على شاكلة قامات الدكاليين، سيكون طويلا ضخما كما هي قامات أهل دكالة، وهذا اسمه مغربي دكالي واضح، ليس كما هو الغزالي والمعتصم فهما معا اسمان عربيان بادية هي هويتهما العربية من اسميهما. بعدها سألاحظ اسم الاستاذ بوطالب وهو مدرس مادة “أسس علم الاجتماع”، لم أكون عليه فكرة واضحة، وكون أن هذا الاسم من الأعلام الفاسية الوازنة في بلدنا، كنت منبهرة خصوصا باسمي المعتصم والغزالي، بعدها ستقع عيني على اسم الزياني مدرس “ميادين علم الاجتماع”، فأدركت بفطنتي وبسرعة ودون أدنى تردد مني أنه من “اولاد زيان”، أحد المناطق القريبة من الدار البيضاء، فأكيد أنه من هناك، حتى أن محطة السفر الكبرى بمدينة الدار البيضاء تحت مسمى ” اولاد زيان”، فغالبا سيكون بيضاويا منحدرا من ضاحية أولاد زيان، وهي المنطقة المعروفة بما تزخر به من فلاحة وخير وكرم أهاليها مثل جهة دكالة، كان هذا هو انطباعي عنهم من خلال أسمائهم أي هوياتهم. فالهوية تبدأ بالاسم الشخصي واللقب. وهي ما أعرف به ذاتي وأنتظر من الآخر أن يعترف لي بها. هكذا درسنا في مادة “سوسيولوجيا الثقافة”!
لأدخل أول حصة كانت أمامي ذاك اليوم الغريب عني، وأنا أحس بالخجل لكبر سني ظانة أنني أكبر طالبة بالجامعة، متواجدة في مكان غريب، وكل من حولي غرباء، لا أعرفهم كلهم، أغلبهم صغار السن، فأول تلاميذي الذين درستهم أكبر منهم! وتساءلت: هل سأجلس بجوار هؤلاء الشباب الصغار الذين هم كلهم حماس وحركة وإرادة وقوة؟؟ هل سأستطيع مجاراة اجتهادهم هم الحاصلون على الباكالوريا حديثا؟؟ وقد تكلست بالمقابل معلوماتي وعلاها الغبار، طيلة هاته السنين؟ هل… وهل… وهل… العديد من الهلهلات، التي تطرق رأسي. ودخلت أول حصة وهي مادة الفكر الفلسفي للدكتور المعتصم.
أحاسيس كثيرة خالجتني حينها، الخوف، الفرح، الخجل، الرهبة، التردد… وخاصة الرغبة في أن أخرج من المدرج هاربة إلى طنجة دون أوبة إلى هذه المدينة مارتيل وهذه الكلية، ليدخل أمامنا شاب أنيق ويقول لنا بعد إلقائه للتحية : «سأعود بعد قليل، لأننا نتدارس مواعيد اختباراتكم “للدورة الخريفية”»، خفق قلبي بقوة وخوف من كلمة “اختباراتكم” وأنا برحاب المدرج أول حصة، بعد سكونه لسنين وألمه، هذا القلب الذي لم يخفق من مدة طويلة بهذه الطريقة من مثل هذا الحدث، هذا القلب الحزين الذي لم يعد يعرف إلا التضخم والتصلب والإحساس بالوخز، كأن مقدمة سكين حادة منغرسة فيه، سأعرف هذا نتيجة إحساسي بالألم وببعض التحاليل الطبية، فقد كان بين الحين والآخر يعطيني الطبيب المتخصص في “داء السكري” تحاليل سنوية منها إجراء فحص على قلبي، وفي إحدى الفحوصات كتب لي الطبيب المختص في القلب “رسالة” مغلقة إلى طبيب “داء السكري” والذي بمجرد اطلاعه على فحواها، سألني مستنكرا: «ما بك قلقة إلى هذا الحد؟ ما يؤلمك؟» وسأل زوجي نفس السؤال: «ما بها؟» فاستغربت سؤاله! وكان معي زوجي كعادته، فهو يرافقني أثناء كل فحص عند أي طبيب وعند إجرائي لكل التحاليل لحرصه على ذلك ولخوفي الشديد من الحقنة، بل لرعبي منها. فطبيبي هذا يعرف جيدا مؤازرة زوجي لي لذلك سأله مستغربا. فلم أجد أي جواب في جعبتي لأجيبه به، غير أنني أتأثر بأي خبر مؤلم يمكن أن أشاهده على وسائل التواصل أو أقرأه في جريدة أو أسمعه في بعض برامج الواقع وخصوصا إن تأكدت من صحته، فإنني أسقطه مباشرة على حياتي أو على أولادي، وقد أمضي أسبوعا بعد ذلك أو أكثر متألمة، وبمجرد وضعي لرأسي على وسادتي حتى أبدأ في اجترار واستعراض واستحضار كل تلك الآلام. فنصحني طبيبي بأن أقاطع مشاهدة كل الأخبار المؤلمة عبر جميع وسائل الاتصال والتواصل، المسموعة منها والمرئية، وإن أردت البحث عن الآلام الواقعية اليومية والحقيقية والمرئية مباشرة، فيكفيني الذهاب للمحكمة والوقوف ببابها حتى أرى شابات صغيرات تجاوزن العشرينات بقليل وهن يمسكن بأطفال صغار، يعانين من مشاكل لا حصر لها مع أزواج يرفضون تطليقهن أو هاربون عن أداء نفقاتهن ونفقات أطفالهن… وأضاف الطبيب: «وهذا كاف لكي تشبعي قلبك مباشرة بمشاكل واقعية حزنا وألما». لكن هذا القلب سيتحرك بشكل آخر وأنا داخل الحرم الجامعي.
خالجت قلبي أحاسيس كثيرة وخفقان على حين غرة حين سماعي من الأستاذ كلمة اختبارات، وما لهذه الكلمة من وقع على النفس، وبمجرد انصراف الأستاذ عن المدرج، ألقيت نظرة على استعمال الزمن، فسألت أحد الطلبة بجواري: «هل هذا الذي يتكلم، هو الأستاذ المعتصم[- الدكتور المعتصم الشارف: أستاذ شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، مارتيل/ تطوان، ورئيس شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس. عنوان أطروحته للدكتوراه «مساهمة في دراسة المشروع التاريخاني في الفكر العربي المعاصر» عبد الله العروي نموذجا.
]؟»، أجابني الطالب بالإيجاب!
فاستنجدت داخل صدري، وا معتصماه! ما هذا؟ أنجدني يا معتصماه! هل في أول حصة بالنسبة لي ستعلن امتحانات الدورة الخريفية؟! هل سأستطيع استجماع الدروس وفهم ما فاتني من هؤلاء الأساتذة الأجلاء؟! هكذا أراهم، وهكذا أحس وأنا أقف أمامهم، نعم أجلاء! فهم على أعلى قمة في الهرم الاجتماعي يتربعون كما يقول بذلك أفلاطون وكما قسم المجتمع، فمهما تدهور حال التعليم ببلادي، ومهما اختلفت المقاييس عبر الزمن، فأغلب الأساتذة بالنسبة لي: هم أهل فكر، وهم أشرف الناس، وأهمهم في المجتمع، أحب من أحب وكره من كره.
ومهما تكالبت مجموعة من الظروف لهز صورة الأستاذ في مجتمعاتنا، فقيمته تستمد منه شخصيا، ومن مهنته الشريفة التي يشوبها نوع من القدسية والقداسة والشرف والصدق، على عكس ما يعارضها ويخالفها من مجموعة مهن، فمهما ارتقت بصاحبها ماديا ومجتمعيا، ومهما ذرته من أموال طائلة على ممارسيها كالرقص وتجارة المخدرات…. فتبقى مثل هاته المهن إذا اعتبرناها كذلك مع أنها حاضرة في مجتمعنا شئنا ذلك أم أبيناه أو هي ممارسات موصومة بالدناسة وفي خانة التدنيس.
ولا يهمني مهما سمعت عنهم، فهم أساتذتي الذين أحترمهم، وكل ما يهمني منهم هو علمهم ومعرفتهم وما سأستفيد من خبرتهم، ولا تهمني حياتهم الخاصة أو انزلاقاتهم أو انتماءاتهم الدينية أو الحزبية أو ايديولوجياتهم…!!
عاد الأستاذ المعتصم سليل العصر العباسي المنظم في هندامه، والملقي لمحاضراته دون الخروج عن الموضوع ولو للحظة واحدة، فهو ليس كما تخيلته من خلال اسمه / هويته، بل أصغر بكثير من خيالاتي. في حركاته وكلامه يظهر حسه الديناميكي الهائل، وأكيد وواضح أنه كان مجدا خلال دراسته وشديد التنظيم. أو هكذا بدا لي، وبمجرد دخوله للمدرج أخبرنا بمواعيد الاختبارات بعد حوالي أسبوعين فقط!!
وبعد انتهاء الحصة، لحقت به مسرعة، والخفقان بقلبي! هل لازال قلبي يعرف الخفقان؟ ياه! من مدة طويلة وقلبي جامد لا يخفق لا يعرف إلا الوخز، وقد تكلست عروقه. ولا يعرف غير الألم. أخذ قلبي يخفق وكأنني تلميذة صغيرة أمام أستاذها، وليس امرأة ناضجة، وربما تقارب أستاذها سنا، وبعد إلقائي التحية عليه، قلت له: «كان لي شرف سماع محاضرتك»، وقبل أن أتمم كلامي، عقب علي بسرعة: «أنا من كان له الشرف بذلك!» وامعتصماه، أنك لا تدري وقع مثل هذا الكلام على نفسيتي، وعلى قلبي ولا تدرك أنك بهذا الرد طردت عني فكرة الهروب والانسحاب من الكلية وأنك بهذا الرد الجميل تنقدني من براثين الحلكة المظلمة التي أعيشها، كيف يعقل هكذا كلام؟ أي دكتور بجلالة قدره -ولو أنه لازال شابا- يقول لي: «هو من له الشرف أن أحضر لمحاضرته؟» أي تواضع هذا؟ وأي تعامل في قمة النبل، وقمة الأخلاق؟ هي الأخلاق التي أتغنى بها عند غالبية رجال التعليم. وبعد الخوف والوجل والخجل والرهبة والتردد، سيقفز قلبي بين أضلعي فرحا، لأتم سؤالي: «هل يمكنني أن أساير وأفهم وأن أتدارك ما فاتني، ونحن على أبواب الاختبارات، مع أنني لن أفوز إلا بحضور القليل من المحاضرات المتبقية خلال هذا الفصل الأول؟» وبكل ثقة وسرعة أجابني: «أجل، إنك تستطيعين ذلك بالتأكيد…!» لا أذكر بقية الكلام الذي كان كله تشجيعا لي وكله في هذا السياق، لأنني بدأت أحلق بأحلامي هائمة في ملكوت جديد يبزغ منه شعاع بريق قادم نحوي. وفرحت جدا، فلا غرابة ولا عجب، فأكيد هذه هي أخلاق سلف العصر العباسي ورجالات فكره الأجلاء.
بعدها مباشرة وفي الحصة الموالية، أذكر أنني حضرت محاضرة للأستاذ “بوطالب”[- الدكتور عبد القادر بوطالب: أستاذ شعبة السوسيولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان جامعة عبد المالك السعدي ومنسق مجموعة البحث “الديناميات الاجتماعية وعلاقة السلطة” بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان. عنوان أطروحته للدكتوراه «اللامركزية كهندسة لمجالات التنافس والصراع: السلطة المركزية وآليات إنتاج النخب المحلية» سنة 2002.
]! الشخصية الكارزمية الأكثر شهرة في الكلية بالنسبة لشعبة السوسيولوجيا، أو هو الشخصية الأكثر إثارة للجدل، وهو من بين الأساتذة الذين يدرسون في أغلب الفصول الستة لهذه الشعبة لمدة الثلاث سنوات لنيل الإجازة، يتعاقب فيها على الطلبة بشخصيته الحازمة مع الرعب الذي يخلفه لدى الطلبة خصوصا أيام الاختبارات. لم أكن حينها قد عرفت عنه كل هذا بعد! فبدا لي ذي سحنة تطوانية، ولم أعرف لماذا غيبت في تحليلي هوية اسمه، وكنت لمدة ليست بالهينة -وحسب ملامحه – ظننته تطوانيا، فلون شعره أشقر، وعينيه مائلتين للون الفاتح فلونهما ليس أسودا، مع أنه لا يتكلم بلكنة شمالية حين يتكلم اللهجة الدارجة، فينطق القاف كما ينطقها “أهل الداخل”، هكذا يلقبنا أهل الشمال حين يكون أمامهم من هو ليس جبليا أو ريفيا، لكن في غيابنا نحن غير الشماليين يلقبوننا “العروبية”، ولو كان القادم للشمال من مدينة الدار البيضاء أو الرباط أو فاس.. أو غيرها من المدن المغربية الأكثر تحضرا!
لكن كان مترسخا في ذهني أنه تطواني، لا أعرف لما؟؟، مع أن اسم بوطالب من أعرق الأسماء الفاسية ونواحيها، ويمثل هذا الاسم أكبر رجالات السياسة بالمغرب والفكر أيضا.
ونفس ما حدث لي مع الأستاذ المعتصم، وربما لكوني لازلت لم أسمع تعاليق الطلبة عنه، لم أتردد لحظة فتقدمت اليه، وقلت له نفس ما قلته لمعتصماه (منقدي الأول في الكلية بمارتيل)، ليجيبني بنفس الأدب، وبنفس التواضع: أنني يمكنني المسايرة، رغم ضيق الوقت، وقال لي: ما اعتبرته المفتاح السري في تعاملي مع كل الاختبارات فيما بعد، «أننا نكون طلبة باحثين وليس طلبة يردون لنا ما نلقنهم إياه في المحاضرات».
فأحيانا انطباعاتنا المغلوطة عن الأشخاص وأحكامنا المسبقة عنهم قد تجعلنا مترددين للوهلة الأولى في التعامل معهم، أو قد نمتنع عن التعامل معهم نهائيا!! وهذا يمكنه أن يضيع علينا معرفة الكثير من الناس وخسارة التعامل معهم لمجرد أحكام مسبقة قد لا تمت للحقيقة بصلة وقد تحول دون التواصل معهم والتعرف عليهم عن قرب.
سمعت الدكتور بوطالب يردد مرارا هذا الكلام -أننا نكون طلبة باحثين- مرارا في محاضراته خصوصا في الأيام الاخيرة قبل كل الاختبارات، فاستنتجت من نصيحته هاته، أنه لا يجب أن أكتفي بمحاضرات الأساتذة التي يلقونها علينا، بل يجب البحث في كتب أخرى أو عبر الشبكة العنكبوتية عن إضافات جديدة في كل مادة. ثم استطرد بعد تشجيعه لي، أنه يمكنني الذهاب عنده لمكتبه للاستشارة وطرح كل تساؤلاتي في أي وقت شئت!
يا الله ما هذا النعيم الذي أعيشه، فقد دخلت للكلية بعد عناء طويل من المرض وعدم الرغبة في الخروج من البيت أو محادثة أي شخص، لتبدأ لحظات الانتعاش النفسي عندي بهذه الكلمات من أستاذ جامعي له وزنه.
سأعرف فيما بعد أن هذا الأستاذ بوطالب شخص صارم وحازم، وأن حصته يسودها الصمت المطبق في المدرج، فمن كرر لديه بعض تصرفات الشغب التي تقطع عليه حبل الكلام والتركيز فيما يقول، فإنه يطرده خارج المدرج، ويطرد أيضا كل من سولت له نفسه الدخول لحصته بعد أكثر من نصف ساعة من بداية المحاضرة. يغضب جدا جراء شغب الطلبة أثناء الشرح، وقد يتوقف للحظات وهو متوتر جدا بعد الطرد، وبعد قليل يستعيد هدوءه ليشرع في الشرح من جديد، انه مثلي ويشبهني من هاته الناحية، فأنا كذلك أتوتر بشدة إذا كنت أشرح أحد الدروس، خصوصا النحوية أو التركيبية منها لأنها يجب أن تبنى لدى التلاميذ من الأساس فهي تتكرر باقي السنوات الأخرى وما تبقى من حياتهم الدراسية، وإذا لاحظت خلال ذلك شغب أحد الأطفال المتكرر فإنني أعاقبه وأغضب بشدة قبل أن أستعيد هدوئي وأستأنف من جديد الشرح مرة أخرى.
وقد قدرت كثيرا على عكس الطلبة تدخلاته هاته التي يمرنهم عليها خصوصا في السنة الأولى فبعدها يتعودون على طبعه، والجميع يمتثل لشروطه وإلا سيغادر المدرج مطرودا أمام الجميع، فالمحاضرات عنده هي صلوات يجب احترامها. له عيون ثاقبة كالنسر يلحظ بها البعيد من الطلبة ولو في المدرج مهما كبر ليطرده ومهما امتلأ، كنت أستمتع في حصصه لأنني أسمع كلامه دون مضايقات من الطلبة، فلا أحد يستطيع أن ينبس ببنت شفة أو أن يمسك هاتفه الذكي في حصص الأستاذ بوطالب، فذكاؤه ودهاؤه يفوق ذكاء التكنولوجيا الحديثة التي يستعملها الطلبة في الغش، لأنني سأعرف فيما بعد حضور شخصيته وبقوة في فترة الامتحانات، وأنه من أكثر الأساتذة الغير مرغوب فيهم أثناء الحراسة هو وأستاذ “تمحري”[- الدكتور عبد الرحيم تمحري: أستاذ بشعبة الفلسفة تخصص علم نفس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة عبد المالك السعدي مارتيل /تطوان.
]، لأن لهما عين ثاقبة يكشفان بها كل أو أغلب من سولت لهم أنفسهم أن يغشوا في المكان الذي يحرسانه، وكذا الدكتور تمحري الذي يستشعر هو أيضا محاولات الغش بدوره من بداياتها،الى أنه وبكل هدوء يأمر الطالب الغشاش أو الذي حاول الغش أن يغير مكانه إلى الصفوف الأمامية ويجعله صوب عينيه كإنذار أولي وإن لم يمتثل الطالب لذلك يمر الأستاذ لإجراء آخر، وغالبا يفتضح أمر الغشاش مع الأستاذ تمحري، فتجد الطلبة أمامه يحاولون على الأقل حفظ ما بقي من كرامتهم، فينسحبون في هدوء ويمدونه بأوراق التحرير لأنه لن يزحزح ناظريه عنهم، ومهما تفننوا في إبداع وسائل غش حديثة مبتكرة تساير العصر والتقدم التكنولوجي، فهو يكشفهم.
حتى أن إحدى الطالبات لم أرها طيلة فترة الامتحانات، فسألتها عن سر غيابها عن المدرج الذي أجرى فيه أغلبيتنا اختبارات الدورة الأولى، فأجابتني ضاحكة: أنا لن أغامر وأدخل لمدرج يحرس به الأستاذ تمحري والأستاذ بوطالب!، واستطردت: فأنا لست حمقاء! بادئ الأمر لم أفهم! لأنني لم أتخيل بعد مرور حوالي عشرين سنة توقفت فيها عن الدراسة، أن الغش صار وكأنه حق مشروع يستبيحه ويمارسه الطلبة حتى في الحرم الجامعي، بهذه الحدة وهذه الكثافة، وعدم الخجل وهم يذكرون ذلك! أكيد أن الغش لم يخل منه مكان ما أو أي فترة زمنية، لكن على أيامنا كان الأمر مختلفا تماما، فالغش لم تكن له أية مشروعية كما هو الحال الآن عند الطلبة، وكان كل من مسك متلبسا به، كان يخجل وبشدة من نفسه ومن الآخرين، ولا يمكنه إعلان ذلك أمام الملأ، أما الآن فقد أصبح الغش ظاهرة تتكلم عنها مختلف وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي التي يمكنها أيضا أن تساهم فيه، وأصبح التفنن والابداع يميزان هذه الظاهرة، كما أنها أصبحت مواكبة للتقدم التكنلوجي، فبعض الطلبة يتكلمون عنه -أي الغش- وكأنه حق مشروط في الدراسة ولابد منه للنجاح في وقتنا الراهن.
حتى أن بعض الطلبة مرة وأثناء النقاش حول هذا الموضوع بالضبط “الغش” في مجموعة كوناها نحن طلبة شعبة علم الاجتماع في “الواتساب”، قال: «أنا مع الغش، وشخصيا أغش، وماذا بعد؟ ففي النهاية سأحصل على “الكرطونة”، يقصد شهادة الإجازة، ولن تغنيني أو تسمنني من جوع، ماذا سأفعل بها، فهي لا تساوي شيئا ولن تخول لي الحصول على عمل!!، فالذين سيحصلون على عمل هم أبناء الطبقة المستريحة التي تتوفر على إمكانيات مادية، فآباؤهم سيوفرون لهم كل شيء حتى العمل، أما عني فسأبقى فقيرا، ابن فقراء!!». لم أعرف ساعتها أن كل ما نسمعه عن الغش قد نخر جامعاتنا أيضا، ومن له بالمرصاد وبقوة فهم أمثال الأستاذ تمحري والأستاذ بوطالب وباقي الأساتذة الآخرين الذين درسوا في ظروف مضت أكيد أنها نقيض ما يعيشونه الآن مع هؤلاء الطلبة.
بدأت نفسيتي تنتعش شيئا فشيئا بعد الموت النفسي واحتراقي المهني. فتشجيع الأساتذة هذا لي لن أنساه ما حييت خصوصا مع ظروفي الصحية تلك التي كنت أعاني منها في بداية دخولي للكلية وخوفي من ملاقاة الناس أو التحدث معهم ورفضي لأي نوع من المعاملة مع الآخر. عدت يومها للبيت، فعلقت ابنتي بمجرد رؤيتها لي: «من مدة طويلة أمي لم نر هذه الابتسامة على ثغرك، وهذا البريق في عينيك!». طبعا، فهي لا تعلم أن داخلي يرقص ويغني ويقفز كطفلة صغيرة.
يقول الدكتور تمحري: «سيكون من التبسيطية الاعتقاد بأن كل الذين اختاروا مهنة التدريس إنما فعلوا ذلك تحت تأثير أساتذتهم، ونتيجة لتوحدهم معهم ولإعجابهم بهم». شخصيا أنا من هذه الفئة، يعني أنني أستاذة تعليم ابتدائي أو أساسي وفي نفس الوقت معجبة جدا بأساتذتي.
لاحظت أنهم أي أساتذتي في “شعبة السوسيولوجيا” بكلية الآداب والعلوم الإنسانية على عكس ما تصورته في تخيلاتي قبل أن أراهم، أي عبارة عن دكاترة كبار في السن، بنظارات سميكة وبطونهم منتفخة أمامهم، إنهم على العكس تماما، فأغلبهم شباب، والأشد غرابة أنهم كلهم وبدون استثناء لا بطون بارزة لديهم، فهم أهل فكر ومعرفة وليسوا رجالات سياسة كما هو متعارف عليهم عندنا يتميزون بالبطون البارزة، وحتى من كان أول عهده بالسياسة بدون بطن، فإنها تبرز لديه بعد ممارستها، تساءلت عن السر في ذلك؟ هل كلهم -أساتذتي- مواظبون على ممارسة الرياضة؟ غالبا لا! فربما هو نوع الطعام! ونوعية التغذية الصحية التي يتغذى بها الناس في شمال المغرب، التي يعتمدون فيها على الأسماك وخشاش الأرض من أنواع البقوليات ثم القطنيات، وأطعمة تحتوي على كثير من الألياف والأجبان اللذيذة والألبان على نقيضها في أغلب مدن المغرب (الداخل خصوصا) التي يعتمد أهاليها على كثرة اللحوم الحمراء وما لذ وطاب من الأطعمة الى درجة التبذير المبرر بالكرم الحاتمي، المميز لأهل الداخل أي كل من هو خارج عن الدائرة الشمالية.
بعدها سيدخل إحدى الحصص أستاذ شاب أيضا، يتكلم بلكنة تونسية، ظننته لمدة لا بأس بها أنه تونسي، وعاش طويلا بالمغرب، فتحولت لهجته الى مغربية منقحة باللهجة التونسية، إنه الدكتور الزياني عبد الغني[- د. عبد الغني الزياني: أستاذ شعبة السوسيولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي، من مؤلفاته: “سوسيولوجيا المقاولة بالمغرب، مدخل إلى منجز لحبيب المعمري”، مقاربات من تقديم أحمد شراك، منشورات دار ما بعد الحداثة الطبعة 2015.
“التراب المجتمع التنمية المستدامة ” عمل مشترك من الندوة الدولية التي نظمها القطب أيام 7/8/9 دجنبر 2016، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية أكدال – فاس، تنسيق لحبيب المعمري وعبد الكريم القنبعي، منشورات القطب، 2017.]، من ظننته للوهلة الأولى من خلال هوية اسمه أنه بيضاوي، يتكلم بسرعة والكلمات تتلاحق بسرعة وهو ينطقها، فبعد أن درست عنده لمست الكم الهائل من المعلومات لديه، فما يمكن أن يقال في مدة زمنية معينة من الكلام، فمع الأستاذ الزياني تسمع الضعف، كنت أتساءل في حصصه: كم يمكن أن يكون قد قرأ من كتاب؟
يخيل لي وأنا أمام الأستاذ الزياني[- د. الزياني، نفسه.
] أنه التهم قراءة الكثير من كتب الدنيا، ومن خلال كلامه وبعض إشاراته فهمت أنه درس بعدة دول عربية منها مصر وتونس، يشير أحيانا للجزائر. كم تمنيت لو استطعت أن أسأله عن مساره الدراسي وعن كيفية دراسته في هذه الدول؟ لكني كنت أخجل وحتى لا يساء فهمي من أني أريد كبعض الطلبة التقرب من الأساتذة من أجل نيل الحظوة لديهم بمحاباتي ببعض النقط أو غيره. هو يحب الطلبة ويعطف عليهم أحس بذلك وألمسه في كلامه، يتكلم لنا بحنين عن الفترة التي قضاها وهو طفل صغير بالداخلية. أكيد أنه جرب كل ألوان المعاناة والاغتراب خلال مساره الدراسي قبل ان يصبح أستاذا جامعيا، لكني على يقين أن مثل هؤلاء هم من يصلون لأعلى المراتب وليس أصحاب الياقات البيضاء؛ هو ماركسي حتى النخاع، واضح ذلك أثناء كلامه خاصة حين درسنا مادة “سوسيولوجيا الأديان”، لباسه فيه تناسق في الألوان غالبا يكون رماديا أو بنيا ذي طابع كلاسيكي. حياته الطلابية لا تغيب عنه، حين تسنح الفرصة له يستحضرها كأنها الأمس القريب، فيتكلم لنا عنها قليلا حسب علاقتها بالموضوع. ومن خلال بعض الإشارات منه عرفنا أنه من شرق المغرب ربما من وجدة أو نواحيها، وأن لا علاقة له بأولاد زيان أو بالدار البيضاء ونواحيها كما تخيلت أو توقعت من اسمه / هويته، وغالبا يربط لنا مثل هذا الحديث بما يدرسنا إياه أي أنه لا يخرج عن سياق محاضراته إلا لوقت قليل. مرة ذهبت عنده لمكتبه ليوقع لي على أحد كتبه فكان توقيعا ذي كلمات جميلة فحواها كالآتي «إلى التي لو تجسدت في شخصيتها الروح الطيبة والمودة والإيثار والفخر لكان اسمها ماجدة، مع متمنياتي لك بالتوفيق»، الكلمات الجميلة لها وقع السحر على نفوسنا أو هي كضماد وبلسم يريحنا حين نسمعها أو نقرأها مهما كانت مجاملة أو تم نسيانها في اللحظة نفسها حتى من طرف كاتبها أو قائلها، كانت هذه كلماته لي على كتابه “سوسيولوجيا المقاولة بالمغرب” مدخل إلى منجز لحبيب المعمري[- د. لحبيب المعمري: أستاذ في علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز- فاس، ويعد من أهم الباحثين انشغالا بتطوير البحث السوسيولوجي بالمغرب حيث يرى أن تطور البحث السوسيولوجي رهين بالانتقال من العمل الفردي إلى العمل الجماعي، ولهذا كان من المساهمين في تأسيس مختبر الأبحاث والدراسات النفسية الاجتماعية بفاس، وهو المختبر الذي أنجز مجموعة من الدراسات والأبحاث في قضايا متنوعة، كما أن له عدة مؤلفات منها: المقاولة والثقافة: دراسة في عملية التحديث بالمغرب، الجزء I والجزء II، ثم التنظيم في النظرية السوسيولوجية والتغير الاجتماعي ورهانات العولمة. حاصل على دكتوراه الدولة في موضوع «المقاولة والثقافة».
] ذي الثمن الزهيد، كأغلب كتب الأساتذة في شعبة السوسيولوجيا الزهيدة الثمن والتي لا ترهق ميزانية الطلبة بل الأكثر من ذلك أنه غير مفروض علينا شراؤها عكس ما نسمع عن كلية الحقوق وابتزاز الأساتذة للطلبة بشتى السبل لشراء كتبهم المرتفعة الثمن والتي يضاعف ثمنها كتب أساتذتنا عدة أضعاف، بل إنهم على العكس من ذلك يؤكدون علينا أن شراءها ليس ضروريا.
ثم سيدخل للمدرج الأستاذ الشتوكي[- د. الشتوكي محمد طه: أستاذ بشعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، مارتيل / تطوان جامعة عبد المالك السعدي. أطروحته للدكتوراه: “الهندسة التطبيقية في الغرب الإسلامي. من خلال نموذج ابن خلف المرادي” من مؤلفاته: ” فن النظر وأصل العين ” وتحقيق بعنوان “مجهولات قسي الكرة لمعاد الحياني “.
] الدكالي الأصل حسب ظني من هوية اسمه وهو مدرس مادة “مفاهيم فلسفية” لألحظ من كلامه بالطريقة الشمالية التي تخرج بسلاسة من فيه بأن لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بدكالة أو “بالعروبية”، بل لكنته شمالية بامتياز، مع نطقه لحرف الراء مثل أهل فاس. هو أيضا لازال شابا، حضرت لمحاضراته مرتين أو ثلاثا متأسفة على ذلك، فهو الأستاذ الذي يتكلم بسخرية سوداء، يخلط كلامه الجدي بالهزل دون ابتسامة منه، حتى أنك وأنت أمامه لا تعرف الحدود الفاصلة بينهما وأنت تستمع إليه، سألته على ماذا سنعتمد في مادته، أجابني ومجموعة من الطلبة: اقرأوا فقط على بارمينيدس[- بارمينيدس: فيلسوف يوناني ولد في القرن الخامس قبل الميلاد في إيليا، ولقد وضع بارمينيدس فلسفته شعرا مقابل فلاسفة مدرسة أيونيا الذين وضعوا فلسفتهم نثرا، وحذا حذوه مجموعة من الفلاسفة الذين أتوا من بعده، وضع بارمينيدس فلسفته في كتاب دعاه «الطبيعة» الذي قسمه إلى قسمين: الأول في الحقيقة «الوجود الحقيقي» والثاني في الظن «الوجود المحسوس، يبدأ بارمينيزس قصيدته التي سيبحث فيها عن الوجود الحقيقي والوجود غير الحقيقي متحدثا مع الآلهة بنات الشمس (هيليوس).
] أو بارمينيدي الفيلسوف الشاعر الذي عاش قبل القرن الخامس الميلادي. فأول مرة بحياتي أعرف أنه كان هناك شعراء فلاسفة قبل الميلاد.
فالحصص التي حضرتها عند الأستاذ الشتوكي كان يحلق بنا خلالها إلى عالم الشعر والشعراء الفلاسفة ويتكلم لنا عن تلاحم روح الشاعر مع الآلهة!!؟ ما هذا… ما كل هذه الروعة؟ لم أسمع من قبل أن هناك فلسفة شعرية، كان يهيم بنا في قرون ما قبل الميلاد! وكان أول ما حفظت من هذا الشاعر الإغريقي رغم ذاكرتي الضعيفة، بيتا شعريا قاله بارمينيديس:
هزتني الجياد تحملني * * إلى أقصى ما يهفو إليه قلبي
إنه أستاذي الساخر / الجدي والذي لا يمكنك الفصل بين جديته وسخريته المتمازجتين بشكل غريب ومنسجم في نفس الآن، والذي أمدني بدفعة قوة في أول اختبار لي في الدورة الخريفية بالفصل الأول دون أن يدري، حين كنت من بين الطلبة المتأخرين في مده بورقة التحرير مذكرا إيانا على أن لا يتجاوز جوابنا على مادته ورقة ونصف، لأن العادة جرت في كليتنا أن أساتذة كل مادة هم من يحرسون الطلبة الذين يدرسونهم على عكس الحراسة في التعليم الأساسي الذي لا يحرس فيه بتاتا مدرسوا المستوى السادس مثلا كمستوى إشهادي.
ودون أن يدري الدكتور الشتوكي ما فعلت بي ملاحظاته وكلماته التي أشكره عليها جزيل الشكر وممتنة له أيما امتنان حين سلمته ورقتي التي ألقى عليها نظرة سريعة على بعض الأسطر التي كتبت في المقدمة، ليقول لي: «إن مثل هذه الإجابات هي التي تثلج صدورنا نحن كأساتذة أثناء التصحيح وتنسينا رداءة بعض الأجوبة». لم أنبس بكلمة وابتسمت فقط وخرجت محلقة من المدرج الذي سيصبح فيما بعد تحت مسمى ابن الخطيب، نفسيتي هي المحلقة فقد أدركت بتقويمه السريع والآني لبعض أسطر إجابتي أنني على الطريق السليم وأن جوابي في مادة الفلسفة من سطوره الأولى ينم على أن ما بالورقة سليم، مع أني نويت قبل كلام أستاذي الشتوكي أن أركز على بعض المواد وان أترك الأخرى حتى الدورة الإستدراكية لضيق الوقت. ذاك اليوم كان هو أول يوم اختبار لي في الدورة الخريفية به مادتان ولازالت أربع مواد أخرى، مع فرق بين الاختبار والذي يليه يومين فارغين، بعد كلمات الأستاذ الشتوكي وتحفيزه لي الغير مقصود قررت تلك الليلة بكل حماس أن أراجع بقية المواد المتبقية وكلي ثقة في النفس، تلك الثقة التي ضاعت مني في مهنتي “التدريس” بل ضعت ككل، وأصبحت لا أكره مهنتي فقط بل أكره كل حياتي.
حرسني الأستاذ طه الشتوكي أيضا خلال الدورة الربيعية فيما بعد فشكرته لأنه منحني نقطتي المستحقة دون أن يؤاخذني على تغييري الغير متعمد للفوج في الدورة الخريفية، الذي سأشرح دافعي لهذا الكلام فيما بعد، لم يفهم قصدي أول الأمر ونسيني وقال لي: «ما دمت منحتك نقطة ما فتأكدي أنها نقطتك التي تستحقينها»، فاعتذرت منه لأننا نضفي عليهم همنا إضافة إلى الطلبة الجدد فأجابني بكل تواضع وأدب: «بالعكس إن تواجدكم مع الطلبة -يقصد صغار السن- يريحنا كثيرا ويمدنا بالنفس للتدريس وتجاوز الرداءة والتراجع الذي نعيشه بعد كل عقد من الزمن ونحن بهذه المهنة، فبمعيتكم نستطيع أن نجر القافلة للسير قدما فأنتم من تساعدوننا وترفعون من مستوى هذا الانحطاط».
وبعد كل ذلك الكم من الكره لحياتي سأحبها من جديد في الكلية بمارتيل عن طريق الدكاترة الأساتذة الأجلاء الذين درسوني، إنه الانعتاق إنه التحرر من السجن النفسي. حتى أني فكرت وتساءلت لماذا لم أتسجل في شعبة الفلسفة عشقي الأول والقديم والذي لو لم أعمل بمهنة التدريس حينها لكنت تسجلت في كلية بها شعبة الفلسفة، ووقتها كانت متوفرة بمدينة الرباط فقط، وكان مرجع تساؤلاتي سببه الرئيس هو ذلك التعامل المهذب من طرف معتصماه الدكتور المعتصم والدكتور الشتوكي وبعدهما الدكتور تمحري الذي سأجد عنده محفظتي السوداء التي ضاعت مني أو بالأصح نسيتها بطبعي وكعادتي في نسيان أمور كثيرة في حياتي منذ طفولتي، كان ذاك يوم اختبار مادة علم النفس، فقبل أن أستردها منه كنت قد سجلت بدفتري موضوع بحثي بعد اقتراحه علي من طرف أستاذي تمحري الذي وضع يده بالضبط على ما أريده وهو البحث في الموضوع الذي جئت من أجله الى هذه الكلية والذي هو دافعي الأول للهروب،فاقترح علي عنوان “المؤثرات السايكوسوسيولوجية على مدرسي التعليم الابتدائي” بعد أن سألني من أكون؟ ولماذا أتواجد بالكلية؟ قبل أن يمدني بمحفظتي السوداء التي نسيتها في المدرج الذي كان يحرسه بعد اختبار مادة “تيارات علم النفس” وقبل عودتنا بعد الاستراحة لامتحان “مدخل الى علم النفس”، فشرحت له سبب إقبالي على الدراسة في الأساس باقتضاب شديد، لم أكن حينها أعلم مع من أتحدث فسألته عن اسمه في نهاية حوارنا، وخجلت جدا من نفسي لسؤالي ذاك، بعد أن علمت أنني أحظى بالوقوف أمام أستاذ مثله، فقد سبق لي وسمعت عنه الكثير من بعض الطالبات منذ حللت بكلية الآداب والعلوم الانسانية بل كانت عندي بعض كتبه في بيتي التي اقتنيتها استعدادا لاختبارات مادة علم النفس.
كنت أسمع عن تمرسه في تدريس مادة علم النفس ولم أعرفه مباشرة إلا ذاك اليوم المشهود. فكان صدفة لقاؤنا سببه آفة النسيان عندي، فالنسيان جزأ مهم من تركيبتي منذ طفولتي، والكثير من الغرائب والمواقف عشتها بسبب نسياني العجيب، فلا أعلم أين كان يحلق بي تفكيري وأنا طفلة صغيرة وماهي انشغالاتي حينها؟ فقد كان من النادر أن أحضر ما طلب مني شراؤه أو عمله، كان إذا طلب مني إحضار شيء ما فمن النادر أن أحضره، فلا علاقة بين ذهني وعيني ويدي، كان الاتصال بينهم شبه منقطع، فقد كان إذا طلب مني وضع الملح أو الزيت في المطبخ مثلا فإنهم يجدانهما في المبرد، كانت إحدى أخواتي تتساءل مستغربة حين تفاجأ بهما في غير مكانهما: هل أخاف عليهما من الدود أو أن يفسدا بوضعي لهما في مكان بارد؟
فمرة لم يجد كل أفراد أسرتي أحذيتهم، فمن كان يلبس ذاك اليوم حذاء ووضعه من قدمه وأراد أن يخرج بعد ذلك لم يجد له طريقا، فقلبوا الدنيا وهم يبحثون عنها، في نهاية المطاف قالت لهم أمي ابحثوا في القمامة، فماجدة هي من قامت بكنس الأرض وتنظيفها، ولا أستغرب أنها قذفت بكل أحذيتكم مع ما جمعته في القمامة، وفعلا كل وجد حذاءه فيها. هي الأم طبعا وهي الأدرى بفلذات أكبادها والتي لا يمكن أن تتوه عنهم، كانت تقول لي بعد زواجي وإنجابي: «يمكنك أن تنسي العالم بأسره لكن إياك ثم إياك أن تنسي أحد أطفالك في مكان ما أو تنسي أنك أنجبت أصلا وصرت أما؟؟؟».
أعطتني أمي مرة قدرا من المال عبارة عن بعض الملايين -بالضبط ثلاثة- لأحملها في محفظة يدي لرغبتها في شراء شقة وفرقتها بيني وبينها وإحدى صديقاتي خوفا من حملها كل المبلغ في مدينة الدار البيضاء التي تعودنا بعيشنا فيها على الرعب، وفي انتظار القيام بالإجراءات في مكاتب البيع التي كان يتواجد بها العديد من الناس غيرنا، ما كان مني إلا أن هرولت خلف ابنتي الكثيرة الحركة، ووضعت حقيبة يدي التي يوجد بها كل المبلغ أرضا متناسية لها ولما فيها من أمانة، وبعد أن عدت وجلست معهم تناسيت تماما أمر حقيبة يدي وما بها من أموال بعد أن خبأتها أمي عندها ولزمت الصمت متكتمة عن ذلك تنتظر أي رد فعل مني، وبعد عدم تحريكي لأي ساكن مني بدأت تتحسر وتقول أنا هي الناقصة عقل التي أعتمد على المعتوهين! لكني لم أتساءل ولم أفهم ما بها! لكن بعد أن عرفت الحقيقة المرة انفجرت ضحكا كما هي عادتي حين تقع لي مثل هاته الطرائف وغيرها كثير.
أبي كان يقول لي ضاحكا جراء الغرائب التي كنت أقترفها: «هنيئا لك بنعمة النسيان هاته التي أنعم الله بها عليك». لم يفهم زوجي ولم يستوعب كيف يمكنني نسيان إحدى مواد اختبارات الفصل الثاني وأنا أدرس بالكلية وجئت مستعدة لمادة أخرى بالخطأ في غير اليوم المخصص لها وبسبب هذا النسيان أعدت اختبار مادة “سوسيولوجيا التنظيمات” في الفصل الثاني في الدورة الاستدراكية والتي ظننتها ستجرى يوم اختبار مادة “المؤسسات الاجتماعية”.
The post حكاية انعتاق طالبة أستاذة من الجنون للكاتبة والأديبة ماجدة غرابو [ الجامعة…أساتذتي وشعبة السوسيولوجيا ] appeared first on الرباط نيوز.
إرسال تعليق