“من العقل إلى المعدة… سقوط جماعي بنكهة الشواء


كتب/ احمد علي المرس

*من الكلشوية إلى الكرشوية الوطن في مِعدةٍ مستعجلة، المثقف والكسكس تأملات في سقوط العقل أمام الخروف المدبوح إيديولوجيا الكرشوية عقيدة اللحمة والدوارة عيد بلا عيد…وذبيحة لكل معدة وطنية،حين تُصبح البطون أكثر فصاحةً من البلاغات الرسمية*!

وأنا أتجول، كعادتي كل أسبوع، في أزقة المدينة وسوقها المكتظ، أجرّ أقدامي بين صراخ الباعة ونداءات التخفيضات المزيفة، وبين رائحة البهارات التي تَلفظ آخر أنفاسها في حرارة اول ايام شهر يونيو ، إذ بي ألاحظ أمراً غريباً؛ حركة غير مألوفة، تهافت غير مبرر، اندفاع هستيري نحو محلات الجزارة وكأننا عشية عيد الأضحى لا قدر الله! كان في البداية مشهداً عادياً، رجلاً يحمل كيساً أسود كبيراً يترنح بثقل اللحم داخله، قلت في نفسي: لعلها وليمة زفاف أو مأتم… لكن بعد أن رأيت الثالث والخامس والعاشر، بل وربما الخمسين، وكلهم يشترون اللحوم والأحشاء وكأنهم يستعدون لمعركة فاصلة مع المجاعة، أيقنت أنني في حضرة ظاهرة مجتمعية تستحق التأمل، وربما التأبين. أنا، كما يعرفني القريبون مني، لا يفوتني شاردة ولا واردة. أراقب التفاصيل كقاضٍ عسكري يحصي أنفاس الجندي قبل النطق بالحكم. شدّني المشهد، دفعني للتفكير، وفتح أمامي باباً عريضاً من الأسئلة، وعريضة من السخرية… السوداء طبعاً، لا البيضاء ولا الرمادية، بل تلك السخرية التي تُضحكك حتى البكاء، وتبكيك حتى القهقهة. القصة أن الملك، حفظه الله، قد أصدر قراراً حكيماً بإلغاء شعيرة الأضحى لهذا العام. نعم، قرار نبيل، يراعي حالة القطيع الوطني الذي تآكلت حوافره من شدة الجفاف وغلاء العلف وفساد السوق. قرار يحمل روح الرحمة لا القسوة، ويضع مصلحة البلاد فوق طقوس العادة. لكن… المفاجأة الكبرى، أن قرار الملك لم يصل إلى الطبقة “الكرشوية”. نعم، لا أقصد “الكلشوية” التي تحدث عنها أستاذنا الجليل مصطفى الشكدالي، حين كان يردد بتنهيدة ساخرة: “الكلشوية، أولئك الذين يظنون أنفسهم يفهمون في كل شيء، وفي الحقيقة لا يفقهون شيئاً!” لا… بل أتحدث عن “الكرشوية”، وهم الذين يفكرون ويحللون ويقررون من خلال معدتهم، ويعتبرون البطون أوطانهم، والمعدة عقيدتهم، واللحم رسولهم! هؤلاء، ورغم البلاغات، والبيانات، والنشرات الجوية والاقتصادية وحتى الفقهية، قرروا أن “العيد لازم يتدبح”، ولو اضطروا للذبح سراً، أو بالتقسيط، أو على أبواب المجازر المجهولة. وإن كانت الدولة قد ألغت العيد، فهم قد ابتكروا “عيداً موازياً”، لا علاقة له بالدين، بل هو أشبه بطقس وثني لا يكتمل إلا برائحة الشواء تتصاعد من الأسطح العشوائية. المفارقة الصادمة، أن من رأيتهم اليوم يتسابقون على اقتناء الأضاحي السرية، لم يكونوا من علية القوم ولا من أثرياء الريع، بل كانوا من أبناء الطبقة المتوسطة، بل وحتى الطبقة المسحوقة، التي لا تجد ثمن الماء والكهرباء، لكنها تجد بقدرة قادر 2500 درهم لخروف “تحت الدروج”. وبينما أتأمل المشهد، إذ بي أرى واحداً من المثقفين “الحقيقيين” الذين لطالما كتبوا عن الوعي الجماعي، وعن عقلية القطيع، وهو يجر خلفه خروفاً مدبوحاً بطريقة أقرب إلى “الجريمة البيئية”! حينها ضحكت، أو ربما بكيت. فقد علمت أن “الكرشوية” لا تفرّق بين جاهل ومثقف، بين أميّ وخريج السوربون. كلهم سواء أمام قدسية الشواء. ولعلي أضيف، في لحظة صدق مع الذات، أن إفلاس منظومة التعليم برمتها قد ساهم مساهمة جذرية في تنامي هذه الإيديولوجيا العجيبة، إيديولوجيا “الكرشوية”، فحين يتحول التعليم إلى مجرد طقوس إدارية جافة، خالية من التنوير، حين تُسلَّم عقول الأجيال لمناهج بائسة وأطر منهكة وإدارات صمّاء، لا غرابة أن تترعرع “الكرشوية” كبديل وحيد للتفكير، إذ يتعلم الطفل منذ المهد أن “العيد لحم”، وأن القيمة تُقاس بعدد الكيلوغرامات في صحن الكسكس، لا بعدد الأسئلة في رأسه. هل نحن حقاً في حاجة إلى شعيرة أم إلى شعور؟ هل العيد هو الذبح أم الرحمة؟ أم أن المشكل الحقيقي أننا لم نفهم أن التضحية ليست لحماً ودماء، بل سلوكاً وتضامناً وفهماً للظروف؟ كم من مغربي، وهو يشتري خروفه المدبوح “سِرّياً” اليوم، لم يسأل نفسه: من أين جاءت هذه الذبيحة؟ وهل احترمت شروط السلامة؟ وهل هو بذلك يعصي أوامر ولاة أمره باسم البطن فقط؟ لا تلوموا الحكومة. ولا تلوموا الرعية. لوموا “الكرشوية”، تلك الأيديولوجيا السائلة التي نخرت عقولنا وجعلتنا نحتكم للمعدة بدلاً من العقل. نعم، لقد هزمنا اللحم! حين يتحوّل المواطن إلى “كائن كرشوي”، تنتهي السياسة، ويغيب الفهم، ويدخل الوطن في دوامة من الطقوس العبثية. وتبقى المفارقة أن المغاربة، وهم يحرقون جيوبهم من أجل “عيد مُلغى”، لا يزالون يتساءلون لماذا غابت البركة من حياتهم. وأنا، وأنا أدوّن هذه الملاحظات بين عربات السوق وروائح الكرشة والدوارة، أكتشف أنني لم أعد أعيش بين مواطنين… بل بين “معدة جماعية” لها ألف شكل، وألف خروف، وألف سؤال معلّق على مشواة الوطن.

The post “من العقل إلى المعدة… سقوط جماعي بنكهة الشواء appeared first on RifDia.Com.

Post a Comment

أحدث أقدم