السياسات العمومية بين فشل النخب واحتضار التنمية المجالية.

ريف ديا : احمد علي المرس

مرة أخرى، تكشف النقاشات العلمية الجادة عن هشاشة البناء السياسي والمؤسساتي في المغرب، وعن الفجوة المهولة بين ما نصّ عليه دستور 2011 وما بشّرت به القوانين التنظيمية من وعود حول العدالة المجالية والتنمية المستدامة، وبين الواقع المرير الذي يعيشه المواطن المغربي يومياً من تهميش وحرمان.
في ندوة علمية احتضنها فضاء الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير ببني أنصار، بشراكة مع منتدى التعمير والبيئة والتنمية والمجلس الجماعي، يوم الثلاثاء 19 غشت الجاري، حول موضوع: “السياسات العمومية وسؤال التنمية المجالية المندمجة”، تحوّل النقاش إلى محاكمة علنية لفشل الدولة في تنزيل سياساتها العمومية، ولمحدودية أداء نخب سياسية أثبتت عجزها البنيوي عن مجاراة التحديات.
الأستاذ المصطفى قريشي، في مداخلة حارقة، وضع إصبعه على الجرح: الخلل ليس في غياب النصوص ولا في ندرة المخططات، بل في أعطاب النخب التي تحكمت في دواليب القرار لعقود دون كفاءة ولا رؤية. وأكد أن التنمية في المغرب تُدار بمنطق المقاعد والولاءات، لا بمنطق الكفاءة والجدوى، وأن الحل الجذري يكمن في القطع مع الوجوه المتكلسة التي احتكرت الكراسي، سواء في البرلمان أو في المجالس الترابية أو حتى داخل الجامعات، دون أن تقدّم شيئاً سوى مزيد من الركود والانتظارية.
أما الأستاذ عبد الصمد بلقايد، فقد أعاد التذكير بصرامة بالنصوص الدستورية، معتبراً أن دستور 2011 مجرد وثيقة مؤجلة التنفيذ، إذ بقيت القوانين التنظيمية للمجالس الجهوية والإقليمية والجماعات المحلية حبيسة الأدراج، تُستحضر في الخطابات وتُغيب في الممارسة. وأشار بحدة إلى أن جميع المخططات التنموية القطاعية، من “المخطط الأخضر” إلى “المخطط الاستعجالي”، لم تكن سوى مشاريع ورقية استنزفت المال العام دون أثر ملموس على المواطن.
الحضور الوازن من أساتذة أكاديميين، فاعلين جمعويين، وإعلاميين محليين، أغنى النقاش وأكسبه عمقاً إضافياً. وقد جاءت إحدى المداخلات من الحضور لتوصيف الواقع المغربي بشكل صادم، حيث قال المتدخل: “هناك مغرب يسير بسرعة البراق في محيط مركز القرار، ومغرب آخر يسير بسرعة الحلزون في المناطق المنسية والمهمشة”. وهو توصيف بليغ يلخص الهوة العميقة بين المركز والهامش، وبين خطاب التنمية وواقع التفاوتات المجالية والاجتماعية.
الأكثر خطورة، كما نُبّه إليه أحد الاعلاميين أثناء النقاش، هو تركيز السلط في يد الولاة والعمال، الذين يجمعون بين صفة الوالي على الجهة والعامل على الإقليم، في تناقض صارخ مع مبدأ فصل السلط وتوازنها، مما يجعل كل الشعارات حول الجهوية المتقدمة واللاتمركز الإداري مجرد أوهام تُرفع للتجميل السياسي لا غير؟
إنّ الحصيلة منذ الاستقلال إلى اليوم لا تحتاج إلى تجميل، تنمية كارثية بكل المقاييس، مراتب متدنية في المؤشرات الدولية، مناطق شاسعة مهمشة، وشعب يعيش يومياً خيبات سياسات عمومية عرجاء. المسؤولية واضحة، نخبة سياسية وإدارية فاشلة، غارقة في الريع والولاءات، عاجزة عن تحويل الإرادة الملكية وخطابات الإصلاح إلى واقع ملموس.
اليوم، لم يعد النقاش ترفاً فكرياً ولا تنظيراً أكاديمياً. القضية وجودية: إمّا أن يقطع المغرب مع منطق “إعادة تدوير النخب” و”تزيين الواجهة” بسياسات ترقيعية، ويتجه فعلياً نحو ديمقراطية تشاركية حقيقية تُشرك المجتمع المدني والفاعلين المحليين في صناعة القرار، وإما أن يبقى رهينة نفس الأعطاب التي جعلت التنمية شعاراً بلا مضمون.
لقد آن الأوان لقولها بصراحة، المغرب لا يحتاج مزيداً من المخططات، بل يحتاج إلى ثورة في العقليات، إلى إرادة سياسية صادقة، وإلى جرأة في ربط المسؤولية بالمحاسبة.
لقد أجمعت الندوة على أنّ أزمة التنمية في المغرب ليست أزمة نصوص، بل أزمة ممارسة وإرادة، وأن النخب السياسية والإدارية أخفقت في ترجمة الرؤية الملكية إلى سياسات عمومية ناجعة لها أثر مباشر على الحياة اليومية للمواطنين. كما خلصت إلى أنّ تنزيل العدالة المجالية والتنمية المستدامة يتطلب:
القطع مع الريع السياسي وتوريث المناصب. و إشراك فعلي للمجتمع المدني في بلورة السياسات العمومية.
مع اعتماد حكامة رشيدة تقوم على ربط المسؤولية بالمحاسبة.و تجديد النخب وضخ دماء جديدة قادرة على رفع تحديات العصر.
إنّ المغرب اليوم في مفترق طرق: إما أن يواصل الدوران في حلقة السياسات الفاشلة والمخططات الورقية، أو أن يفتح أفقاً جديداً بجرأة سياسية تضع المواطن في صلب التنمية، وتترجم شعار “العدالة المجالية والتنمية المستدامة” من خطاب إلى واقع معاش.

The post السياسات العمومية بين فشل النخب واحتضار التنمية المجالية. appeared first on RifDia.Com.

Post a Comment

أحدث أقدم