الفضاء الحدّي والشفاء الرمزي: قراءة في استمرارية موسم سيدي علي بن حمدوش

يشكل موسم سيدي علي بن حمدوش واحدا من أبرز الفضاءات الطقوسية بالمغرب، حيث تتقاطع فيه الأبعاد الدينية، العلاجية، الاقتصادية والثقافية، ليصير أكثر من مجرد تجمع احتفالي، بل مختبرا اجتماعيا يعبر فيه الأفراد والجماعات عن حاجاتهم العميقة في التداوي، البحث عن المعنى، ومواجهة هشاشة الحياة اليومية. فبين الأضرحة والحضرة الحمدوشية والعيساوية، يتجاور المقدس والشعبي، وتتعايش أنماط متناقضة من الممارسة: من طلب البركة والشفاء الروحي والعمل والزواج إلى حضور السحر والشعوذة، ومن التعبير عن التدين الشعبي إلى بروز سلوكات هامشية تقرأ أحيانا كخرق للمعايير الأخلاقية.
إن قوة الموسم تكمن في كونه فضاء حدّيا (liminal) يعلّق فيه النظام الاجتماعي العادي مؤقتا، مما يسمح بانبثاق أنماط جديدة من التواصل والتجربة، ويجعل منه مجالا غنيا لفهم العلاقة بين الدين الشعبي، البنية الاجتماعية، والتحولات الثقافية في المغرب المعاصر. وهكذا، يغدو الموسم مجالا للصراع الرمزي بين الدولة التي تتأرجح بين التثمين التراثي والرقابة الأخلاقية، والمجتمع الذي ينقسم بين من يعتبره إرثا روحانيا وثقافيا ومن يراه ممارسة خرافية أو منحرفة.
من هنا، تطرح دراسة موسم سيدي علي بن حمدوش أسئلة سوسيولوجية وسيكولوجية نقدية عميقة حول:
• وظائف الطقوس في إدارة القلق الجماعي ومعالجة المعاناة.
• حضور السحر والروحانيات كآليات للتأقلم مع الاضطراب الاجتماعي.
• تمظهر الهويات الهامشية في فضاء موسمي معلق المعايير.
• حدود نظرة الدولة والمثقفين بين الحفاظ على التراث ومواجهة ما يعتبرونه انحرافا.
• أسباب استمرارية الطقوس رغم تسارع الحداثة والتحولات الاجتماعية.
الدور الاجتماعي–الثقافي لموسم سيدي علي بن حمدوش
موسم سيدي علي بن حمدوش أكثر من مجرد تجمع احتفالي ديني؛ إنه فضاء اجتماعي-ثقافي متعدد الوظائف، يختزن أبعادا رمزية واقتصادية وروحية عميقة، ما يجعله تجربة جماعية مركبة في صلب الديناميات المجتمعية المغربية.
يلعب الموسم دورا علاجيا ورمزيا، إذ يتحوّل إلى ما يشبه عيادة جماعية مفتوحة تستند إلى الطقوس الروحانية والممارسات العلاجية الشعبية. فالزوار يقصدون الضريح طلبا لـ”البركة”، وإبرام النذور، والتوسّط عبر الوسائط الروحية مثل “للا عائشة” أو أرواح الجنّ. في هذا السياق، يتجلّى الموسم كآلية لإدارة اللايقين الاجتماعي المرتبط بالمرض، العقم، مشكلات الزواج، أو قلق الرزق. هذه الطقوس، بما تتضمنه من حضرة ورقص وغناء وإيقاعات مكثفة، تمنح الأفراد شعورا بالسيطرة على ما لا يمكن السيطرة عليه، وتفتح أمامهم منفذا نفسيًا-ثقافيا لتصريف التوترات والبحث عن المعنى.
يضطلع الموسم بوظيفة بناء التضامن الاجتماعي وتجديد الهوية المحلية. فهو يشكل موعدا سنويا لإعادة إنتاج شبكات القرابة والجيرة، حيث تلتقي العائلات والجماعات المهنية والطرقية في فضاء واحد. كما ينعش اقتصادا شعبيا واسع النطاق: من الأسواق الموسمية والتجارة الصغيرة إلى الخدمات الروحانية والفنية التي تحيط بالموسم. وفي هذا المستوى، يمكن قراءة الظاهرة عبر مقاربة دوركهايم، باعتبارها لحظة “هيجان جمعي” تؤدي إلى إعادة شحن الروابط الاجتماعية وتعزيز الانتماء المشترك. الحشود الكبيرة التي تتنقّل من مختلف مناطق المغرب نحو الضريح بقرية مڭرصيين قرب زرهون تكشف عن مركزية الموسم في مخيال جماعي يتجاوز الحدود المحلية ليأخذ بعدا وطنيا.
يشكل الموسم فضاءً لحفظ التراث الطرقي والموسيقى الطقوسية المغربية. إذ تحضر الجماعات الحمدوشية والعيساوية بآلاتها التقليدية كالغيطة والطبول، وبطقوسها الخاصة مثل “الحضرة” والذكر، لتعيد إنتاج ذاكرة جماعية تمتد جذورها إلى القرون الماضية. هذه الطقوس ليست مجرد فرجة، بل تحمل وظائف علاجية وأدائية، تتيح للمنخرطين فيها فرصة الدخول في حالات وجدانية وروحية جماعية، حيث ينصهر البعد الفردي في التجربة الجماعية. وبذلك، يسهم الموسم في استمرارية الموروث الصوفي الشعبي كأحد مكونات الهوية الثقافية المغربية، ويمنحه حضورًا متجددا في سياق اجتماعي يعرف تحولات عميقة.
إن موسم سيدي علي بن حمدوش، بهذا المعنى، يمثل بنية اجتماعية–ثقافية هجينة، فهو في آن واحد فضاء للشفاء الرمزي، وسوق شعبي موسمي، ومسرح لتجديد الهوية الدينية والثقافية، ما يجعله نموذجا حيا لفهم كيفية صمود الممارسات الشعبية أمام ضغوط الحداثة والتحولات الاجتماعية.
حضور طقوس السحر والروحانيات بقوّة
موسم سيدي علي بن حمدوش فضاء تتكثف فيه طقوس السحر والروحانيات بوصفها آلية جماعية لإدارة اللايقين. فمن منظور سوسيولوجي، يمكن اعتباره فضاء حدّيًا (liminal) بالمعنى الذي قدمه فيكتور ترنر، حيث تعلّق القواعد الأخلاقية والاجتماعية الصارمة، ليفتح المجال أمام منطق نفعي-علاجي يبرر حضور “الشوافات”، وتداول البخور والحناء والذبائح كرموز علاجية. في هذا السياق، يستنبت اقتصاد غير رسمي يوفر “خدمات روحية” متنوّعة، تتراوح بين تفسير الأحلام، تيسير الزواج أو الإنجاب، وحل مشكلات الصحة والرزق، تمزج بين المقدس والدنيوي، وبين طلب البركة من الضريح واستدعاء الجن باعتباره فاعلا في الحظ والصحة والنجاح.
من منظور سيكولوجي–ثقافي، فهذه الطقوس تؤدي وظيفة علاجية رمزية واضحة، إذ تولد استجابات معنى معنوي تتيح للفرد استعادة شعور بالتحكم والقدرة. وتساعد الإيقاعات المتكررة، الروائح النفاذة، والحركات الجسدية الجماعية على إحداث حالات من الغياب الواعي (trance) والانفصال عن الذات (dissociation)، ما يسمح بالتفريغ الانفعالي وتجاوز الألم النفسي أو الصدمات. دراسات الإثنوسايكياتري ، خاصة تلك التي تناولت الطريقة الحمدوشية، أوضحت كيف تتحول هذه التجارب إلى أشكال بديلة من العلاج النفسي–الثقافي، تمنح للأفراد إطارا مألوفا ومقبولا اجتماعيا للتعامل مع المعاناة.
بهذا المعنى، يمكن القول إن طقوس السحر والروحانيات في الموسم ليست مجرد بقايا “خرافية”، بل هي تكنولوجيا اجتماعية-ثقافية معقدة، تمكّن الأفراد والجماعات من مواجهة هشاشتهم وإعادة بناء توازنهم النفسي والاجتماعي داخل إطار رمزي مشترك.
الجدل حول “الممارسات المثلية” في الموسم
يثار في الخطاب الإعلامي والعمومي كثير من الجدل حول ما يُسمّى بـ“الممارسات المثلية” داخل موسم سيدي علي بن حمدوش، حيث تقدّم أحيانا في شكل سرديات شعبية وإعلامية تصوّر الموسم باعتباره “حجّا للمثليين” أو فضاء لـ”زواجات” غير مألوفة. أوراق أكاديمية نبهت إلى ضرورة التمييز بين الخطاب الأسطوري الذي أحيانا يضخمه الإعلام وبين الواقع الميداني، الذي يكشف بالأحرى عن ارتفاع قابلية الرؤية لسلوكيات وأجساد غير نمطية في فضاء طقوسي شديد الاكتظاظ والاختلاط، أكثر مما يكشف عن وجود بنية مؤسسة لممارسة مثلية. تقارير صحفية وثّقت لتدخلات أمنية واعتقالات متفرقة في سنوات سابقة، مما يبرز حساسية الموضوع في نظر السلطات.
الموسم يعلّق النظام الاجتماعي العادي ويتيح لحظات من “الكوميونيتاس” العابرة للفوارق، حيث تتراجع رقابة الجسد وتخف وطأة المعايير الأخلاقية الصارمة. في هذه الوضعية، تصبح الذوات الهامشية ـ ومن ضمنها الأجساد الموصومة بالاختلاف الجنسي ـ أكثر قابلية للظهور من كونها أكثر حضورا فعليا. وهنا يمكن استدعاء تحليل إرفينغ جوفمان (Goffman) حول إدارة الوصمة، فالموسم يوفر ستارا طقوسيا يسمح للهوامش بالتنفيس المؤقت عن ذواتها في خلفية اجتماعية، فيما تبقى الواجهة خاضعة لخطاب المجتمع المحافظ والإعلام الفضائحي.
بهذا المعنى، فإن ما يقدّم في الصحافة كـفضيحة أخلاقية يمكن قراءته سوسيولوجيا كتعبير عن مفارقة بنيوية من جهة، فضاء طقوسي يفتح المجال لتجارب جسدية واجتماعية خارج المألوف، ومن جهة أخرى، مجتمع وإعلام يوظفان هذا الهامش لإعادة إنتاج الوصم والرقابة. لذا، إن حضور المثلية الجنسية في الموسم ليس بالضرورة تجسيدا لواقع بنية جنسية بديلة، بقدر ما هو نتاج تفاعل معقد بين الطقس، الجسد، والوصم الاجتماعي.
الدولة والمجتمع: بين تثمين الإرث ورفض الممارسة
تكشف مقاربة الدولة والمجتمع لموسم سيدي علي بن حمدوش عن ازدواجية دالة بين خطاب التثمين الرسمي من جهة، وآليات الضبط والرفض من جهة أخرى. فمن الناحية المؤسساتية، تميل الدولة إلى إدماج المواسم في خانة التراث الثقافي اللامادي، على منوال ما جرى مع مواسم أخرى مسجلة دوليا مثل موسم طانطان أو طقوس ساحة جامع الفنا ومهرجان حب الملوك بصفرو. هذا التأطير يبرز الموسم كجزء من الرأسمال الرمزي–الثقافي للمغرب، وكمورد لتنشيط السياحة الداخلية والروحية. غير أن هذا الاعتراف سرعان ما يقابله تدخل أمني أو إداري عندما تتكثف شكايات السكان أو تتناقل وسائل الإعلام تغطيات فضائحية مرتبطة بممارسات غير مقبولة، بما في ذلك الحديث عن السحر أو الانفلات الأخلاقي. بهذا المعنى، تتأرجح الدولة بين منطق التراث ومنطق الرقابة، في تجسيد واضح لمفارقة إدارة الفضاءات الطقوسية الهامشية.
أما على مستوى المجتمع والفاعلين الثقافيين، فنجد انقساما واضحا، فجزء واسع من الزوار والساكنة المحليين ينظرون إلى الموسم بوصفه مصدر بركة وضمانا للهوية المحلية، بينما ينتقده آخرون ــ من مثقفين محافظين وحداثيين على السواء ــ باعتباره ممارسة خرافية أو لا أخلاقية. يتغذى هذا الاستقطاب من السرديات الإعلامية التي تركز على حضور السحر والجن والانفلات الأخلاقي، مما يعيد إنتاج جدل واسع بين من يسعى لتثبيت الموسم كإرث ثقافي حي، ومن يرى فيه تهديدا لصورة المغرب الحداثي أو للمعايير الدينية المحافظة.
بهذا، يغدو الموسم نقطة توتر رمزية بين تصوّر رسمي تراثي–تنموي، وجدل اجتماعي–ثقافي يتأرجح بين التبرير والرفض، وبين الحماية والرقابة.
استمرارية الطقوس في ظل التحولات والحداثة
رغم انتشار أنماط العيش الحديثة وتوسّع الطب الحيوي والتعليم والوسائط الرقمية، يظل موسم سيدي علي بن حمدوش قائما ويستقطب آلاف الزوار سنويا. هذه الاستمرارية يمكن تفسيرها عبر تضافر عوامل رمزية، علاجية، اقتصادية، وإيقاعية–طقوسية.
من منظور بورديوي، تشكل الطقوس جزءا من الهابيتوس الديني–الثقافي للمجتمع المغربي؛ فهي أنماط ممارسة مترسخة يعاد إنتاجها لأنها تلبي وظائف ملموسة تعمل على إضفاء المعنى على الأوضاع الهشة، وتوفير المساندة الرمزية، والتفريغ النفسي–الجماعي، إلى جانب تفعيل شبكات العون غير الرسمي.
على المستوى النفسي–الثقافي، تؤدي الطقوس وظائف علاجية–وجدانية يصعب تعويضها بسهولة. فهي تقدم علاجا منخفض الكلفة ومصاغا بلغة مألوفة ثقافيا لمعضلات الحياة اليومية (العقم، الرزق، المرض، الزواج، القبول، القلق)، بفعالية متصوّرة عالية، مما يجعلها منافسا أو مكملا للطب الحديث أكثر من كونها بديلا منقرضا.
يرتبط استمرار الموسم أيضا بوجود اقتصاد غير رسمي متجذر: أسواق مؤقتة، خدمات روحانية وفنية، فرق طقوسية، حرف محلية، وباعة متجولون، وكلها تجد في الموسم مصدرا للدخل والمكانة. هذا البعد المصلحي يعزز ديمومة الطقوس عبر تداخل الدين، الثقافة، والاقتصاد الشعبي.
هناك منطق العتبة والإيقاع الدوري: الموسم يتكرر سنويا كموعد يعيد إنتاج “الهيجان الجمعي” بالمعنى الدوركهايمي، ويجدد الروابط والعهود والنذور. هذه العودة الدورية تمنح الطقس قوة استمرارية تجعل منه آلية صمود ثقافي أكثر من مجرد احتفال موسمي عابر.
بهذا المعنى، فإن استمرارية الطقوس لا تعكس مجرد بقايا تقليدية بل دينامية تكيفية تجمع بين الرمزي والعلاجي والاقتصادي والاجتماعي، وهو ما يفسر صمودها أمام موجات التحديث والتحولات القيمية.
موسم سيدي علي بن حمدوش فضاء حدّي بالمعنى التِرنَري، تتقاطع فيه وظائف علاية–رمزية مع ديناميات اقتصادية–اجتماعية. فهو من جهة يوفّر إطارًا للشفاء الرمزي وإدارة اللايقين الوجودي عبر الطقوس والحضرة والنذور، ومن جهة أخرى ينعش الاقتصاد الشعبي ويحافظ على شبكات التضامن وإعادة إنتاج الهوية المحلية.
حضور طقوس السحر والروحانيات لا يمكن اختزاله إلى خرافة، بل يفهم كسوسيولوجيا للمعنى، إنه تكنولوجيا اجتماعية–ثقافية تستخدم وسائط حسية (الإيقاع، الرائحة، الجذب) لإحداث تبدلات وعي وتفريغ انفعالي، بما يشكل أشكالا بديلة من العلاج النفسي–الثقافي، كما وثقته دراسات الإثنوسايكياتري.
أما الخطاب حول المثلية في فضاءات الموسم، فيكشف عن التباس بين الرؤية الاجتماعية والوجود الفعلي. فالموسم يخفف، مؤقتا، من كلفة الوصم ويتيح ظهور ذوات هامشية تحت ستار طقوسي، لكنه لا يشكل مؤسسة لـزواج مثلي كما يروّج أحيانا في الإعلام؛ بل هو انعكاس لآليات إدارة الوصمة في سياق جماعي مؤقت.
على مستوى الدولة، يظهر التوتر بين منطق التثمين التراثي، حيث ينظر للموسم كجزء من الرأسمال الرمزي واللامادي للمغرب، وبين منطق الضبط الأخلاقي والأمني الذي يتدخل عند بروز تغطيات فضائحية أو اختلالات في النظام العام. أما الإعلام فيضخّم هذه الجدلية عبر استدعاء صور السحر والجن والانفلات الأخلاقي، مما يعيد إنتاج الاستقطاب المجتمعي بين المدافعين عن الموسم كتراث حي، والمنتقدين له كخرافة أو ممارسة غير مقبولة.
في المحصلة، يكشف موسم سيدي علي عن تعايش الحداثة مع البنى الرمزية التقليدية، حيث تظل الطقوس قادرة على الصمود لا باعتبارها بقايا ماضٍ مندثر، بل كآليات تكيفية تمنح المعنى، وتؤدي وظائف علاجية واجتماعية واقتصادية في آن واحد.
د. هشام بوقشوش / باحث في علم الاجتماع

عن موقع: فاس نيوز

Post a Comment

أحدث أقدم